Thursday, May 19, 2011

عن الفتية الشرفاء؛ عن شبابنا عند السلك الشائك في مارون الراس!

كم هي طويلة طريق مارون الرأس، كم هي تحدق في كل الأشياء هناك، المنازل، الأرض المزروعة بالأرواح والدماء، ياه كم هي طويلة تلك الطريق. مشيناها، كانت الأهازيج والأغاني لا تفارق عقولنا، لم يكن أحدٌ يسمع حساً كثيراً، بعض لهاثٍ من هنا، وبعض غضب، ولكن المسير كان رائعاً، وكان الناس أكثر من رائعين، لا أحد أبداً، كان يريد إلا الإصغاء لفلسطين، ففلسطين قريبة كلمسة روح، وبعيدة كمنارة!

كان السلك الشائك يلوح لامعاً، قيل قبلاً مكهرب، وقيلاً بعداً طلقاتٌ تلوح مزغردة تؤذن برحيل شهداء، لكن لم يأبه شبابنا أبداً،ولا شيباً، هذه أرضهم، وأصحاب الأرض معروفون لجميع الناس، يقاتلون لأجل أرضهم حتى يفنون، لا يفرون، ولا يهنون، ولا يتزحزحون، هي معرفة الحبيب للحبيب، وعشق الحياة لأننا نحن نعرف كيف نحياها، ونعرف أنه حينما تأتي الشهادة نعانقها، فأمثالنا لا يخافون من شيء، لأنهم ببساطة "أصحاب الأرض".

هجم يعرب، وزين، وعبدالجبار، وبقية الشباب، مزق زين قميصه، كانت لحظة غريبة، كنت أنظر بدهشة، لماذا يمزق الشاب العشريني قميصه؟ قد يسأل كثيرون، هو غضبٌ ما فوقه غضب، هو أن تشعر بأن مغتصب أرضك أمامك، ولا تستطيع شيئاً، هو أن تعرف بأن قاتل أهلك قريب بلمسة ولا تستطيع شيئاً، هو أن نفهم بأن السفاح الذي يقتل دون حد أمام ناظريك، ولا تقول شيئاً. لكن هذه المرة الأمر يختلف، هذه المرة، سأرمي نفسي عليه، فإما تنطفئ النار أو أنطفئ. ليس في الأمر انتحاراً، وليس في الأمر استعراضاً، فلا كاميرات هناك، ولا وسائل إعلام تصّور الحدث، هي علاقةٌ روحانية بين فلاحٍ وأرضه، بين عامل ومصنعه، بين أم وإبنها.

يعرب، يشبه إسمه كثيراً، عربيٌ أصيل، فقد صوته هناك، ذاب صوته أمام فلسطين، هي صلةٌ لا يدركها إلا من كان هناك، لا يمكن نسيان مشهده يعانق الشريط الشائك، لحظتها ترك قلبه معلقاً بين الشهداء، لكن الله لم يختره راحلاً معهم، رغم إرادته. هي فرحة الرحيل والتعلق بها، لا يعرفها إلا قلة، أولئك من حدثوا الله كثيراً، وسمعهم! لم يرحل يعرب آنذاك، بل رحل إلى المستشفى وفي قلبه غصة، بماذا أختلف عمن رووا هذه الأرض؟ ذاب صوته لكن فعله لا يذوب أبداً!

عبدالجبار كان أكثرهم بصراً، هو أيضاً لم يكن شهيداً، لكن هذه المرة هي أول مقابلةٍ مع الشهداء، سقط أول شهيدٍ بين يديه، فما درى إلا بنفسه يحمله لسيارات الإسعاف ويعود، ليبارك بشهيد آخر، حمل عبد الجبار الشهداء واحداً تلوا الآخر، تلون بأرواحهم، هل كان ينبغي أن يرمي حجارةً أكثر؟ هل كان ينبغي أن يشد السلك الشائك حتى ينقطع ويدخل بجسده حيث سبقته روحه؟ عبدالجبار كان عائداً أكثر من ذي قبل بكثير، هذا اليوم الذي قال من أجله يوماً "هديني إذا فيك.. وما فيك!".

هجم الشباب على السلك الشائك؛ لا يعولون على شيء، رموا حجارةً كثيرة، وأمسكوا بالسلك الشائك صارخين بالجنود "الإسرائيليين" أن يطلقوا النار، وصبغ العلمُ بالدم؛ هي علاقة روحانية، فليفسر المتفلسفون كثيراً، وليحكي مثقفوا عصور التخلف الكثير عن الأمر، لم يكن الأمر ليعني الشباب أبداً، هل سيسقطون شهداء؟ لم يكن يعنيهم الأمر بمقدار ما كان يعنيهم أن يوصلوا روحهم بهذه الأرض، فهم ليسوا غرباء عنها البتة، هم فقط يريدون لمسها وتقبيلها والتفاهم معها، دون أي وسيط. هي معرفة أنك تشبه أرضك، تحبها دون أي اهتمام بالتفاصيل، دون أن يكون لديك مطمعٌ فيها، أن تفهم بأن ما تقوم به الآن هو رسالة بكل المقاييس، رسالة "كلمة حق أمام سلطانٍ جائر"، رسالة "هذه أرضي، ومنها سترحلون"، رسالة "إني عائد، ولا تستطيعون معي شيئاً" فإذا ما كنت أفتح صدري لرصاصكم، أتعتقدون أنني سأخاف عودتي.

هي ليست أول مرة، وبالتأكيد لن تكون أخيرة، فالموعد بات قريباً، فنحن دائماً نقول وبأعلى أصواتنا عند غروب كل يوم: يا فلسطين غابت شمس يومٍ آخر، وقربت عودتنا نهار

صورة على الجانب الآخر من السلك:

يافا كانت هناك، الصبية الفلسطينية اللامعة، كانت هناك. رآها الجميع هناك، على الجانب الآخر، لكن اللقاء لم يأن بعد! لم يأن بعد! ولكن ألم نقل: "قربت عودتنا نهار؟".

بقلم: عبد الرحمن جاسم

No comments:

Post a Comment